القاهرة

مصر التى فى خاطرى

بقلم د. ماجد عثمان ٢٤/ ٢/ ٢٠١١ وزير الاتصالات فى الحكومة المصرية الجديدة




 

الجيل الذى أنتمى إليه عاش لحظتين فارقتين يفصل بينهما ٣٧ عاماً: حرب أكتوبر وثورة يناير. الأولى قامت بها القوات المسلحة الباسلة - خير الجند - وساندها طوائف الشعب التى انخرطت فى الصفوف المقاتلة بعد هزيمة ١٩٦٧.

واللحظة الثانية هى ثورة بيضاء أطلقها شباب مصرى انضمت إليه طوائف الشعب وحافظت عليها القوات المسلحة الباسلة، وحمت شبابها وضربت المثل للعالم كله فى ضبط النفس وحكمة التعامل فى ظل أجواء مشحونة وحساسيات شديدة التعقيد.

وأزعم أن مصر لم تنجح فى توظيف انتصار أكتوبر ١٩٧٣ والذى كان بكل المقاييس إعجازاً حقيقياً على النحو الذى يفجر القدرات الكامنة فى هذا الشعب العظيم، فسرعان ما عاد المارد إلى قمقمه مرة أخرى. وانطلق جامعو الغنائم بيننا ليحصدوا الجوائز الواحدة تلو الأخرى، واختزل العبور العظيم - عبور الحاجز العسكرى والنفسى - إلى مسلسل لجنى الثمار من خلال ممارسات ظاهرها التنمية وباطنها الفساد.

وكان مسلسل جنى الثمار عامراً بحلقات عديدة منها الاتجار فى المخدرات واستيراد السلع الفاسدة والمتاجرة فى أراضى الدولة والتجاوزات الصارخة فى البناء. ولم يصل لصناع النصر إلا النذر القليل من غنائم الحرب بل لم يحظ الحدث الذى صنعوه باهتمام كاف من القائمين على الفن سواء من القطاع الحكومى أو الخاص. وباستثناء أغان وطنية رائعة تفاعلت مع حرب أكتوبر بحس وطنى مرهف فإن الحدث لم يوظف فنياً فى عمل سينمائى ضخم يليق ببطولات من صنعوه أو بنتائجه على المنطقة.

واستمر مسلسل الفساد وأصبح ككرة الثلج فى مجتمع ازدادت إمكاناته وقدراته الاقتصادية، ولكن وعلى التوازى ازداد فساده بمعدل أكبر لتصب عوائد التنمية وبشكل غير متوازن لصالح شرائح محدودة.

ولم يكن جامعو الغنائم من حولنا أقل حظاً فتدفقت العوائد النفطية بشكل غير مسبوق لتصب فى تنمية شعوب الدول النفطية حينا ولتصب فى جيوب حكامها أحيانا أخرى، وتغيرت معادلة العلاقات العربية لتضع أصحاب العبور فى خانة المتسولين.

والحديث عن أكتوبر ١٩٧٣ واسترجاع ما حدث بعدها ليس بكاءً على اللبن المسكوب – وهو بكاء مشروع – ولكنه تحذير من عدم اقتناص اللحظة التاريخية وإعادة المارد مرة أخرى إلى قمقمه ودعوة إلى تحويل هذا المارد إلى قوة دفع تنقل المصريين إلى المكانة التى يستحقونها وتستحقهم.

إن المرحة القادمة تتطلب أن نقوم بتطهير أنفسنا – ولا أقصد هنا تكرار تعبير التطهير الذى صاحب بدايات ثورة يوليو – ولكن أقصد أن يتعهد كل منا وبصدق وبإخلاص بعدم السماح بتكرار أخطاء وخطايا الماضى. وأسجل هنا هذه التعهدات التى يشاركنى فيها الكثيرون:

لن نسمح لأحد بأن يحقر من شأن المصريين.

لن نسمح لأحد بأن يستخف بعقولنا.

لن نسمح لأحد بأن يتستر على الفساد.

لن نسمح لأحد بأن يتساهل مع مهمل.

لن نسمح لأحد بأن يتغاضى عن منافق.

لن نسمح بتزوير الانتخابات.

لن نسمح لأحد بأن يتعنت ضد أصحاب ديانة أخرى أو يسلبهم حقهم.

لن نسمح لأحد بأن يقول «أنت مش عارف أنا مين؟»

لن نسمح بتعذيب متهم أو انتهاك حقوقه.

لن نسمح باستمرار أمية ثلث رجال مصر ونصف نسائها.

لن نسمح بأن يصل طفل مصرى إلى الصف الثالث الابتدائى وهو غير قادر على القراءة.

لن نسمح بخريج جامعى غير مؤهل لسوق العمل.

لن نسمح لأحد بأن يُلقى القمامة فى الشارع.

لن نسمح لأحد بأن يخالف إشارة مرور.

لن نسمح لأحد بأن يغش فى الامتحان.

لن نسمح لأحد بأن يتحرش بنسائنا وبناتنا.

لن نسمح لأحد بأن يلقى الاتهامات على الشرفاء جزافاً.

لن نسمح لأحد بأن يهدر المال العام.

لن نسمح لأحد بأن يخفى عنا المعلومات.

لن نسمح لأحد بأن يجامل أقاربه أو معارفه على حساب المصلحة العامة.

عند ذلك سنتوقف عن ترديد أبيات فاروق جويدة المفعمة بالصدق:

«هذى شعوب رأت فى الموت غايتها.. واستسلمت للردى ذلاً وطغياناً»

لنردد بدلاً من ذلك بكل زهو:

«هذى شعوب رأت فى المجد غايتها.. واستلهمت من شبابها عزاً وإخلاصاً»

إن الإصلاح السياسى هو البداية الصحيحة لبناء مصر القوية الشامخة وهو بوابة لإصلاح شامل اجتماعى وثقافى واقتصادى.

إن هذه الثورة البيضاء التى شهدتها مصر ستعيد بعث الشعب المصرى من جديد، ولدى إحساس جارف بأننا لن نجد بعد الآن من يفاخر بالفساد والإفساد ويجاهر بسلطانه وقوته وستختفى المظاهر السلبية التى عانينا منها كثيراً.

سنجد المصريين فخورين بأنفسهم وبإنجازهم وسنجد طاقات الإبداع تتفجر وسنجد المصريين أكثر تماسكاً فى السراء والضراء وستتراجع الأجندات الخاصة وستتزايد قدرة المواطن على الحكم الصحيح على الأمور وسيفكر المصريون فى مستقبلهم بشكل جدى. لن يسمحوا لأحد بأن يسرق الحلم ولن يسمحوا لأحد أن يسلب الفرح.

تحدث البعض عن الخسائر التى تكبدها الاقتصاد المصرى فى الأسبوعين الماضيين وعن استحالة تعويض هذه الخسائر، وأعتقد أن حسابات المكسب والخسارة إذا أخذت فى اعتبارها الطاقة الكامنة التى ولدتها ثورة يناير وما يمكن أن تنتج عنها فإن الخسائر المادية مهما عظمت تتضاءل أمام المكاسب المعنوية التى أنتجتها الثورة إذا أحسن توجيهها.

ولا شك أن نظرة المصرى لنفسه قد تغيرت وسيتعامل المصريون من الآن مع بعضهم باحترام، سيشعرون بانتماء حقيقى وسيكونون أكثر التزاماً بواجباتهم، أكثر اتقاناً لأعمالهم، أكثر حباً لبلدهم. وستكون الشوارع أكثر أمناً وسيختفى الاحتقان الطائفى والتحرش الجنسى وستخفت الألفاظ البذيئة.

لا شك أن المصريين سيتعاملون مع بيئتهم بصورة أكثر رقياً ولن يلوثوا نهر النيل وسيحافظوا على شوارعهم وحدائقهم وعلى المواصلات العامة لأنها ملكهم، وسيشعرون أنها الثروة التى سيتركونها لأولادهم وسيزداد الإحساس بالجمال ويتراجع القبح من المجتمع.

لا شك أن نظرة العالم لمصر تغيرت على نحو سيضفى على مصر قوة هائلة تمكنها من لعب دور إقليمى ودولى سينعكس ايجابياً على أى تسوية سياسية للنزاعات الإقليمية التى استحكمت حلقاتها من القضية الفلسطينية إلى مفاوضات حوض النيل، وستبرز فى الأفق فرص لأدوار دولية وإقليمية تلعبها مصر باقتدار مستندة إلى ما قدمته للعالم من إلهام يعكس رؤية شعب اختزن حضارة خمسة آلاف عام وأعاد إنتاجها بشكل ناضج وحضارى.

وعلى الصعيد الاقتصادى، فإن مصر الجديدة ستكون أكثر جذباً للاستثمار الذى يفضل سيادة القانون والشفافية على تسهيلات الفساد، كما أن ملايين إضافية من السائحين سيتوافدون إلى مصر ليس لرؤية الأهرامات والكنيسة المعلقة والقلعة ولكن لرؤية المصريين الجدد، وسيعيد ملايين السائحين زيارة القاهرة لاستنشاق نسيم الحرية فى ميدان التحرير الذى لم يلتفتوا إليه عند زيارتهم للمتحف المصرى، ستصبح مصر قادرة على التقدم بثقة ليس فقط لتنظيم مونديال بل ربما لتنظيم دورة أوليمبية وسيرحب العالم بعقد المؤتمرات الضخمة فى مصر لمساندة صناع التغيير ولمؤازرة من فاجئوا العالم بل وفاجئوا أنفسهم بثورة بيضاء أحدثت تغيرات أخفق كل الحالمين والمتفائلين فى توقعها.

لا شك أيضاً أن المجتمع المدنى الذى ظهر بشكل عفوى عندما اختفت قوات الأمن ليحمى المال والعرض ولينظم المرور ويحرس المنشآت الخاصة والعامة هو أحد تجليات الثورة المصرية، وهو قادر على التعامل مع العديد من مشكلات المجتمع المصرى المزمنة مثل محو الأمية وتمكين الفقراء والدفاع عن حقوق الإنسان والرقابة الشعبية. بشرط أن تعطى الفرصة كاملة للمجتمع المدنى المصرى للانطلاق بمصر إلى الأمام دون قيود تكبله أو نظرات ريبة تحيط به.

لا شك أيضاً أن المصريين فى الخارج سيشعرون بالفخر بمصريتهم وسيمدون يد العون للمصريين بالداخل وسيكونون أكثر عطاءً للوطن الأم بالعلم والفكر والتكنولوجيا.

كل ذلك سيجعل من هذه الثورة نقطة تحول تاريخى فتعالوا نوجه هذه الطاقة للبناء. بناء الإنسان المصرى وإعادة تشكيل قيمه ونحرص جميعاً على ألا تصبح الثورة مجرد انتصار كروى نشعر بعده بالنشوة ونعود كما كنا مرة أخرى، هذه فرصة التغيير الحقيقى فلا تدعوها تفلت لنصنع وطناً يليق بنا.

دكتور ماجدعثمان

* وزير الاتصالات فى الحكومة المصرية الجديدة